فصل: تفسير الآية رقم (43):

مساءً 8 :46
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (40):

{وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ} أصله إن نريك و{مَا} مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ومن ثمة الحقت النون بالفعل، قال ابن عطية: ولو كانت {ءانٍ} وحدها لم يجز إلحاق النون، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه، قال ابن خروف: أجاز سيبويه الإتيان بما وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع {مَا} وعدم الإتيان بها، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه: {بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} مفعول ثان، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو نعدم وعدًا متجددًا حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر، وهذا الحصر مستفاد من {إِنَّمَا} لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى، وقوله تعالى: {وَعَلَيْنَا الحساب} الظاهر أنه معطوف على ما في حيز {إِنَّمَا} فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات. واعتبر الزمخشري عطفه على جملة {إِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم، قيل: وهو الظاهر ترجيحًا للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلًا حصر، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية. وفي البحر عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان {نُرِيَنَّكَ} لأن المعطوف على الشرط شرط، وقوله تعالى: {تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} لا يصلح أن يكون جوابًا للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبًا عليه، فيقال والله تعالى أعلم: وإما نرينك بعض الذين نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، ويكون قوله تعالى: {فَإِنَّمَا} إلخ دليلًا عليهما، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر.
ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه:

.تفسير الآية رقم (41):

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} إلخ، والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا {أَنَّا نَأْتِى الأرض} أي أرض الكفرة {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} من جوانبها بأن نفتحها شيئًا فشيئًا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] وروي ذلك عن ابن عباس. والحسن. والضحاك. وعطية. والسدي. وغيرهم، وروي عن ابن عباس أيضًا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأخير، وروي أيضًا عن مجاهد، فالمراد من الأرض جنسها، والأطراف كما قيل عنى الإشراف، ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق:
واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ** أطراف كل قبيلة من يمنع

وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم. وقول بعضهم: طرف كل شيء خياره، وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه: العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفًا قال ابن عطية: أراد كرم الله تعالى وجهه خيارًا؛ وأنت تعلم أن الأظهر جانبًا، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق. وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني، وتقرير الآية عليه أو لميروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابًا بعد عمارة وموتًا بعد حياة وذلًا بعد عز ونقصًا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى، وقيل: نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم، والأول أيضًا أوفق بالمقام منه، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] وفي «الحواشي الشهابية» أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا، وجملة {نَنقُصُهَا} في موضع الحال من فاعل {يَأْتِىَ} أو من مفعوله؛ وقرأ الضحاك {نَنقُصُهَا} مثقلًا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في البحر {والله يَحْكُمُ} ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والإذلال حسا يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها، وقوله سبحانه: {لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ} اعتراض أيضًا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا، وقيل: هو نصب على الحال كأنه قيل: والله تعالى يحكم نافذًا حكمه كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرًا وإليه ذهب الزمخشري، قيل: وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالًا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال، ومنه يسمى الذي يطلب حقًا من آخر معقبًا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي، قال لبيد:
حتى تهجر بالرواح وهاجها ** طلب المعقب حقه المظلوم

وقد يسمى الماطل معقبًا لأنه يعقب كل طلب برد، وعن أبي علي عقبني حقي أي مطلني، ويقال للبحث عن الشيء تعقب، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيًا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعدما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسا يرى، وكأنه قيل: لا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، وقال ابن عباس: المعنى سريع الانتقام.

.تفسير الآية رقم (42):

{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)}
{وَقَدْ مَكَرَ} الكفار {الذين} خلوا {مِن قَبْلِهِمُ} من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرة كرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاءً بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى: {فَلِلَّهِ المكر} أي جنس المكر {جَمِيعًا} لا وجود لمكرهم أصلًا، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم مجرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسا يبينه قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون، كذا قاله شيخ الإسلام، وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الأشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعون واللغويون؛ وقيل: وجه الحصر أنه لا يعتد كر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا. وفي الكشاف أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} إلخ تفسير لقوله سبحانه: {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا} لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعدلها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر. وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعًا لا لهم، على معنى أن ذلك ليس مكرًا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله {وَسَيَعْلَمُ الكفار} حين يأتيهم العذاب {لِمَنْ عُقْبَى الدار} أي العاقبة الحميدة من الفريقين وإن جهل ذلك قبل، وقيل: السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذٍ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار، وهذه قراءة الحرميين. وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة {وَسَيَعْلَمُ الكفار} بصيغة جمع التكسير.
وقرأ ابن مسعود {الكافرون} بصيغة جمع السلامة، وقرأ أبي {الذين كَفَرُواْ} وقرأ {الكفر} أي أهله، وقرأ جناح بن حبيس {وَسَيَعْلَمْ} بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرًا، وفسر عطاء {الكافر} بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون، وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل، وما تقدم هو الظاهر، ولعل ما ذكر من باب التمثيل.

.تفسير الآية رقم (43):

{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
{وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلًا} قيل: قاله رؤساء اليهود.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام: هل تجدني في الإنجيل رسولًا؟ قال: لا» فأنزل الله تعالى الآية، فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبًا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غني عن شهادة شاهد آخر، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث أنه يغني غناها بل هو أقوى منها {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز، قيل: والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بذلك العنوان من ترك العناد وآمن.
وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدًا بيني وبينكم، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ولم لم يؤدها فهو خائن، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا، وقيل: المراد {بالكتاب} التوراة والإنجيل، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام. وإضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة، فقد أخرج عبد الرزاق. وابن جرير. وابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد الله بن سلام. والجارود. وتميم الداري. وسلمان الفارسي، وجاء عن مجاهد. وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد الله ولم يذكروا غيره.
وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال: أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب}؟ قالوا: اللهم نعم. وأنكر ابن جبير ذلك، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية. والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون: إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك، وأنت تعلم أنه لابد لهذا من نقل.
وفي البحر أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخبارًا عما سيشهد به، ولك أن تقول.
إذا كان المعنى على طرز ما في الكشف وأنه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد الله بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره، ولا مانع أن تكون الآية مكية، والمراد من الذين كفروا أهل مكة {وَمِمَّن عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب بذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم. نعم قال شيخ الإسلام: إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف، وقيل: المراد بالكتاب اللوح و{مِنْ} عبارة عنه تعالى؛ وروي هذا عن مجاهد. والزجاج، وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله تعالى، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدًا بيني وبينكم، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

فلا محذور في العطف، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر. وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل: وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا من بناء السورة الكريمة على ما بنى وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة، ولهذا فسره الزمخشري بقوله: كفى بالذي إلخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وا أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزله على أسلوب فائق على المتعارف، ويعضد ذلك القول أنه قرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي. وابن عباس. وعكرمة. وابن جبير. وعبد الرحمن بن أبي بكرة. والضحاك. وسالم بن عبد الله بن عمر. وابن أبي إسحاق. ومجاهد. والحكم. والأعمش {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضًا. وابن السميقع. والحسن بخلاف عنه {وَمَنْ عِندَهُ} بحرف الجر و{عِلْمُ الكتاب} على أن علم فعل مبني للمفعول و{الكتاب} نائب الفاعل فإن ضمير {عِندَهُ} على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراآت، وقيل: المراد بالكتاب اللوح {وَن} جبريل عليه السلام.
وأخرج تفسير {مِنْ} بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى.
وقال محمد بن الحنفية. والباقر كما في البحر: المراد {نِ} علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أن المراد {بالكتاب} حينئذٍ القرآن، ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملًا لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد، والظاهر أن {مِنْ} في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل، ويؤيده أنه قرئ بإعادة الباء في الشواذ، وقيل: إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون في موضع رفع على الإبتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولًا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ {شَهِيدًا} ويراد بذلك الله تعالى، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعلم في القراءة التي وقع {عِندَهُ} فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف؛ فيكون فاعلًا لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمهما أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجوز وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدا والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فميا ناب عنه من ظرف أو مجرور، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك، وقد أعرب الحوفي {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} مبتدأ وخبرًا في صلة {مِنْ} وهو ميل إلى المرجوح، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا ومن باب الإشارة في الآيات: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} [الرعد: 20] قيل: عهد الله تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء {والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} فيصلون بقلوبهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلالة صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية {وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ} [الرعد: 21] عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.
وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف؟ فقال: الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا، وقال بعضهم: الخشية أدق والخوف أصلب {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ} صبروا عما دون الله تعالى بالله سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلبًا لرضاه {والذين يُمَسّكُونَ} صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً} أفادوا مما مننا عليهم من الأحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ظاهرًا وباطنًا أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضًا {وَيَدْرَءونَ بالحسنة} الحاصلة لهم من تجلي الصفة الإلهية السنية {السيئة} التي هي صفة النفس، وقال بعضهم: يعاشرون الناس بحسن الخلق فإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عقبى الدار} [الرعد: 22] البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة {جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ} قيل: يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الأرواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الأفعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم ولأجل عين ألف عن تكرم {والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ} [الرعد: 23] {سلام عَلَيْكُم بما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار} [الرعد: 24] يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والإمدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذي صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستر فيه {الذين كَفَرُواْ} الايمان العلمي بالغيب {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله} قالوا: ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال، وذكر السر بالمناجاة، وذكر الروح بالمشاهدة، وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق، وذكر الله تعالى بالفناء فيه {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] وذلك أن النفس تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فإذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن، وسائر أنواع الذكر إنما يكون بعد الاطمنان، قال الهزجوري: قلوب الأولياء مطمئنة لا تتحرك دائمًا خشية أن يتجلى الله تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالأدب {الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} تخلية وتحلية {طوبى لَهُمْ} بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات{وَحُسْنُ مَئَابٍ} [الرعد: 29] بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بما كَسَبَتْ} [الرعد: 33] أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ} [الرعد: 36] ما أخرج سبحانه أحدًا من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى الله عليه وسلم، وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به.
وقال الجنيد قدس سره: لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين الله تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والأوراد، ومطايا الفضل عزائم الأمور فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما بعده {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} فيه على ما قيل إشارة إلى أنه إذا شرف الله تعالى شخصًا بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحًا في ولايته، وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ {لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره؛ ومن هنا قيل: الأمور مرهونة لأوقاتها، وقيل: لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص {يَمْحُو الله ما يشاء ويثبت} قيل: يمحو عن ألواح العقول صور الأفكار ويثبت فيها أنوار الأذكار ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان، وقيل: يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله، وقال ابن عطاء: يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة، وقيل: يمحو ما يشاء عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفنى ويثبت ما يشاء فيها فيوجد {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه، وقيل: لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلًا وأبدًا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والاثبات، وذكروا أن الألواح أربعة. لوح القضاء السابق العالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ. ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو ثابة خيال العالم كما أن الأول ثابة روحه والثاني ثابة قلبه. ثم لوح الهيولي القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} قيل: ذلك بذهاب أهل الولاية الذي بهم عمارة الأرض، وقيل: الإشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئًا فشيئًا حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولًا وبإفناء صفاتها بصفاتنا ثانيًا وبافناء ذاتها في ذاتنا ثالثًا {لاَ مُعَقّبَ لحكمه} [الرعد: 41] لا راد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل الله تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى لي الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم.